السبت، 28 يوليو 2012

"العذراء والأقباط وأنا" : الدين حقا افيون الشعوب





دراسة تحليلية للفيلم الفائز بالجائزة الكبرى لمهرجان الأسماعيلية الدولي ال 15

استطاع فيلم"العذراء والأقباط وأنا" للمخرج المصري الأصل "نمير عبد المسيح" أن يحصد عدة جوائز بالدورة الخامسة عشرة لمهرجان الأسماعيلية الدولي(23-28 يونيو/2012) والتي كان اهمها الجائزة الكبرى لأحسن فيلم تسجيلي طويل, وكان الفيلم قد حقق اقبالا وتجاوبا كبيرا من جمهور المهرجان عندما عرض في اليوم الأول.
بوستر الفيلم
في البداية يمكن أن نربط بين هذا الفيلم وبين"ثلاثية الطريق إلى الله"التي عرضت في افتتاح المهرجان وذلك من زاوية الحديث عن علاقة المصريين بالدين وعن محاولة البحث والتفسير الأنثربولوجي لوجود هذا الوازع الديني الكبير والعميق لدى المصريين, فالطريق إلى الله يتحدث بشكل او بأخر عن كون مصر احد المهاد الهامة لفكرة الدين من قبل نزول الديانات السماوية وأن الدين لم يكن منفصلا عن السياسية وعالم الأسرار العليا طوال حكم الفراعنة وما بعده وان اشهر التيمات الدينية كتيمة العذراء والمسيح موجودة في المثيولوجيا الفرعونية متجسدة في اسطورة ايزيس وحورس.
وقد كان الكهنة يحتكرون لسنوات طويلة الأسرار الألهية العليا ومن هنا جاء الصدام الشهير بينهم وبين اخناتون عندما أطلق اشهر دعوة توحيد في عصر الحضارات الانسانية الأولى لأن جزء من دعوته كانت الخروج بالدين من حكر الكهنة إلى عموم الناس بعد أن كان مصدر تنفذ للطبقات الكهنوتية على الشعب.
ومع اختلاف الأجيال وبدون اي مقارنات جانبية تظل قضية علاقة المصريين بالدين أحد اخطر وأهم القضايا التي شغلت السينمائيين الجادين طويلا خاصة مع تحول الدين لاحد التابوهات الثلاثة الرئيسية إلى جانب الجنس والسياسة.
مشهد من الفيلم
فيلم"العذراء والأقباط وأنا"ليس فيلما عن الدين ولا يبحث وراء قضية دينية ولكنه فيلم سياسي ذو ملامح انثربولوجية هامة تجسد قضية سياسية ومجتمعية خطيرة تخص المجتمع المصري والعربي على حد سواء وهي انه كيف من السهل استغلال الوازع الديني لدى الشعوب من اجل اغراض سياسية ايا كان هدفها.
من هنا يمكن أن نعتبر هذا الفيلم دراسة حالة هامة من مخرج مهموم بقضايا وطنه حتى لو كان غير مقيم, فالوطن في النهاية قيمة اكبر من المكان وأكثر شمولية ودلالة من الموقع الجغرافي, واعتبار"نمير عبد المسيح"مجرد مخرج مغترب قادم من فرنسا كي يسخر من أهل قريته الصعيدية ويثبت لهم أن ظهور العذراء خرافة هو اعتقاد سطحي جدا معناه نفي الجهد الفكري والسينمائي والنفسي الذي بذله هذا الشاب في مواجة ما قد يعتبره البعض هرطقه وخرق لثوابت الدين المسيحي.



الأم /العذراء
المخرج نمير عبد المسيح
ثمة مفتاح رئيسي لقراءة الشكل السردي الذي قدمه المخرج والذي يتبدل ما بين شكل البحث/التحقيق المصور وبين الاثبات العملي لوجهة النظر الفكرية وراء التجربة, هذا المفتاح هو علاقة نمير بأمه,  فنحن امام شاب في ديانة تقدس الأم وتعتبرها أحد الأيقونات الدينية ودائما ما تذكرنا هذه العلاقة ما بين الشخصية الرئيسية والام بعلاقة المسيح بأمه ورحلة نمير في البحث خلف ظهور العذراء واكتشافه حجم القدرة الهائلة لتأثير الدين على المصريين بدأت من حديث له مع امه بخصوص ظاهرة تجلي العذراء وايمان الأم المطلق بهذا وتأثرها الشديد به في مقابل شكوك نمير وتساؤلاته العلمانية في ظاهرها والسياسية في مغزاها وباطنها.
وتعتبر علاقة المخرج بأمه التي تتحول إلى شخصية رئيسية من شخصيات الفيلم احد الخطوط الهامة التي يدعم بها الفيلم عملية السرد, فالام في البداية هي مصدر الفكرة التي تراود المخرج ثم تتحول إلى أحد اطراف الصراع الفكري والنفسي اي(خصم) للمخرج/البطل في رحلة البحث خلف الظاهرة, حتى اننا نراها في احد المشاهد تلومه وتوبخه وتحذره من الذهاب إلى قريتها في الصعيد لتصوير اهلها البسطاء كي لا يعايرها أحد ببساطة اصلها, بعد ان غادرت إلى فرنسا مع زوجها وابنها.
ثم يتغير موقف الأم, اولا بحكم ايمانها بأبنها ورغبتها في مساعدته ومن ناحية محاولة منها لتقويم افكاره وخوفا عليه من التورط في اي هرطقات بسبب علمانيته الواضحة .
وشخصية الأم شكلت فارقا كبيرا في حجم العفوية والطرافة اللذان اتسم بهم الفيلم خاصة في الفصل الخاص بعملية اعداد مشهد تجلي العذراء والذي يصر نمير على استخدام اهل قرية امه لتصويره على اعتبار انهم عينة الحالة البحثية التي اتخذها لطرح تساؤلاته حول مدى تأثر المصريين بالوازع الديني وسهولة التأثير عليهم من خلاله.

الأقباط /المصريين
من المعروف في علم اللغة أن كلمة قبط مشتقة في الأصل من كلمة"ايجبتوس"وهو الأصل اللاتيني لكلمة مصر"ايجيبت"وكان مصطلح الأقباط يعني المصريين اي انه لم يقتصر فقط على معتنقي الديانة المسيحية منهم ولكن مع التحولات الأجتماعية والسياسية التي شهدتها مصر منذ عصر الفتح الأسلامي اصبحت دلالة الكلمة مقتصرة على المصريين المسيحيين فقط.
ايقونة 
نستطيع هنا ان نقرأ عنوان الفيلم على اعتبار أنه يتحدث بشكل اكثر شمولية من فكرة تناول ظاهرة تخص المجتمع المسيحي في مصر وهي"الظهورات" (الجمع العامي لكلمة ظهور والذي يعني ظهور العذراء)خاصة اذا ما اتخذناه من زاوية قراءة تأثير استغلال الخطاب الديني على المجتمع المصري اي ان العنوان يصبح (العذراء والمصريين وأنا)
نتصور أن هذا الفيلم من خلال بناءه العفوي والتصاعدي في نفس الوقت قد تشكل داخل رأس نمير اثناء عملية التصوير والبحث ذاتها وليس قبلها فبعد أن يفشل نمير في القاهرة في العثور على اي دليل"مادي"ملموس لتجلي العذراء منطلقا من الحادثة الشهيرة عام68 يقرر السفر إلى الصعيد لتعميق البحث والعودة للجذور ومن المعروف أن نسبة الأقباط في الصعيد أكبر منها في الوجه البحري كما يعتبر المصريين الأقباط هم امتداد العرق القبطي/الفرعوني/المصري الذي امتد بعد الفتح الأسلامي لمصر.

68 لماذا ؟؟
التصور السابق لفكرة التصاعد العفوي للفيلم تدعمه النقطة التي انطلق منها نمير وهي الظهور الأشهر للعذراء عام 68 بالقاهرة وذلك بعد نكسة يونيو 67 حيث كانت الدولة الناصرية تبحث عن عناصر يمكن أن تلهي الناس وتوحدهم في نفس الوقت, وتعيد لهم الأيمان بأنفسهم ووطنهم المهزوم ايمانا منها بأن الدين افيون الشعوب وان المصريين شعب عاطفي دينيا وان شعر بأن"السماء" تدعمه وتتجلى له يمكن أن يقاوم حالة الأنكسار والكفر بكل شئ التي حدثت عقب نكسة يونيو وقد حدث بالتوازي مع مسألة الظهور الشهيرة أن اشاع البعض أن شعرات من ذقن الرسول قد ظهرت لبعض الأشخاص الذين ختموا القرآن مرات عديدة.
إذن يمكن أن نجزم بأن إنطلاق نمير من ظهور عام68 هو أحد الأسباب الرئيسية التي دعته إلى التفكير في الذهاب للصعيد حيث التأثر الديني اكبر لأن عناصر كثيرة ممن تسيطر على الشعب المصري عامة وتجعله اسير الأفكار الدينية تتجلى بشكل كبير في الصعيد حيث الأمية والفقر وتواضع المستويات التعليمية وغياب عناصر المدينة الحديثة فالصعيد في النهاية ليس القاهرة.
ويبدأ"نمير"زيارته للصعيد بلقاء مع شاب يقوم بدق وشم العذراء على ذراعه وتسجل الكاميرا عملية دق الوشم قبل اللقاء وهي تفصيلة اخراجية وبصرية جيدة واثبات ضمني لما سوف يتم تفصيله بعد ذلك في لقاء الشاب حيث نراه يتحدث بوجد شديد عن ان انه اراد دق وشم العذراء على جسده لتصبح جزء منه فهو يشعر بها قريبة من روحه وأنها ترعاه وتقوده, ثم يكشف لنا الشاب عن ذراعه الأخر لنراه قد دق عليه وشم للشهيد ماري جرجس وعندما يسأله نمير عن سر هذا الوشم يقول له انه يشعر برغبة في ان يصبح شهيدا ذات يوم مثل الشهيد ماري جرجس الذي عذب وقتل سبع مرات ثم بعث من جديد, هنا تتقاطع بشدة ودون تدخل من المخرج علاقة العاطفة الدينية بالاسطور الشعبية والتي تصب في الوجدان الجمعي للمصريين وبنظرة أوسع فأننا نجد أن التوحد الشعوري مع ماري جرجس لا فرق بينه وبين التوسل إلى الله بسيد شباب أهل الجنة "الشهيد الحسين"عند المسلمين المصريين رغم أن أكثرهم من السنة فالفيلم يتحدث في النهاية عن "المصريين"كما سبق واشرنا.

  البحث عن العذراء
يستغرق الفيلم في فصله قبل الأخير في عملية استعراض عدد من نماذج اهل القرية الصعيدية خاصة بعد انضمام الأم إلى ابنها في محاولة البحث وتحقيق الهدف الذي نتصور أن الأم نفسها لم تكن مدركة له بشكل كامل.
 يعتبر استعراض الشخصيات في الفيلم من خلال اللقاءت المباشرة أو تصوير الجلسات الليلية بينهم هو جزء من دراسة الحالة وتوريط المتلقي شعوريا معهم, وفهم حقيقي لطبيعة الشخصية المصرية التي تتسم بالطرافة والذكاء الشعوري والعفوية, وليس في طرافة التعليقات او هزلية الشخصيات ما يمكن اعتباره سخرية منهم ولكنه تحليل نفسية للنماذج محور الدراسة والتي سوف تكتمل بأقناعهم بتمثيل مشهد ظهور العذراء.
وعملية تصوير البحث عن فتاة شابة من أهل القرية لتمثيل ظهور العذراء هو عنصر تأصيلي لفكرة تاثر المصريين بالوزاع الديني وكما الشاب الذي يدق العذراء وشما على جسده ثمة الفتاة التي ترى في نفسها العذراء او تشعر بتجلي العذراء فيها رغم انها بعيدة كل البعد في الشبة والأيحاء بالعذاء, وهنا ايضا نقطة هامة فمشهد تتابع لقطات الفتيات التي تتخذ وضعية العذراء امام الكاميرا في "الكاستينج" الخاص بمشهد الظهور ورغم ما تثيره من ضحكات إلا أن ثمة كوميديا سوداء تنحي الطرافة تدريجيا من ذهن المتلقي وتجعله يفكر:لماذا تشعر هؤلاء الفتيات بأنهم حقا يصلحن لتمثيل شخصية العذراء اليس هذا جزء من سيطرة العاطفة الدينية عليهم!!

الأيهام والأقناع
يستخدم نمير خبرته كمخرج في عملية اثبات وجهة نظره من خلال قراره بإعادة تمثيل مشهد العذراء انها الذروة التي يسعى إليها والتي سوف تثبت وجهة نظره لقد بحث عن دليل مادي ولم يجد فقرر أن يخلقه  لا لأثباته ولا لنفيه ولكن للوصول إلى القناعة التي تتأكد بداخله كلما توغل في عملية البحث والتصوير.
يستخدم نمير كل اساليب السينما المستقلة والفقيرة في صناعة مشهد العذراء واعتبار بدائية الأدوات والأساليب هي جزء من فقر الإنتاج او محدوديته هي نظرة سطحية لفلسفة الفيلم, لقد اصر نمير على تصوير كواليس عملية تصوير المشهد بكل طرافتها وبدائيتها واصر على ان يصور لنا تكنيكات تحميل الصورة على الكرومة /الخلفية وقام بتوريط واشراك كل من اتيح له من اهل القرية وتوريطنا ايضا في تساؤل قوي يدفعنا نحو الذروة بالكثير من الشك والريبة! فإلى ماذا يريد هذا المخرج أن يصل بنا ؟
لقد شرح نمير بصريا واخراجيا لنا وللمشاركين معه في تمثيل المشهد كل التفاصيل التقنية حتى يعرف الجميع أن ما يشاركون فيه هو ما يسمى بالأيهام السينمائي وأنه متاح للجميع لو توفرت الحدود الدنيا من التقنيات مجرد شاشة خضراء وكاميرا وبعض معدات الأضاءة وجهاز كومبيوتر حديث نسبيا.
بل أنه من المشاهد الهامة في هذا الفصل-الأخير- أن اهالي القرية من المشاركين في تمثيل المشهد يقومون بأنفسهم برفع الفتاة التي تمثل دور العذراء وتتقمص دورها, أن هذا المشهد الساخر اعمق بكثر من ظاهره فهؤلاء هم الذين يشاركون في عملية صناعة"الأيقونة"الدينية وهم من يعودون للتأثر بها والأنسياق وراء من يتاجر بأسمها.
وذروة هذه المشهد القوي هو الصدفة الفنية التي حدثت, فالفتاة التي تقوم بدور العذراء تطلب منهم التوقف عن رفعها/صناعتها لأن الجلباب الذي ترتديه قد تمزق من الخلف, ليضج الجميع بالضحك, لقد تحطمت قدسية الأيقونة بتعليق ساخر صنع منه المخرج ذروة فكرية ودرامية هامة سوف تؤسس للذروة الكبرى.
ينتهي نمير من تصوير المشهد وفي لقطة شديدة القوة نجد الكاميرا بعد نهاية التصوير تنتقل بحركة بان لليسار بين نمير الواقف في ضوء قوي فوق سطح البيت الذي يتم التصوير فيه والكل ينظر نحوه من اسفل إلى خيال نمير على الحائط , وهي لقطة متعددة الدلالات أولها أن نمير يصبت أن صناعة الوهم والخيال ممكنة وان التأثير الحاصل من ورائها قوي وحقيقي, ثانيها يمكن أن نعتبره اشارة منه أن ما يمجده هؤلاء الأشخاص من خلال حكايات الظهورات والتجلي وغيرها مجرد خيال لا لأن الرمز الديني غير حقيقي ولكن لأن الدين ورموزه ليسوا بهذا البساطة وفي رأينا أن نمير لا يلغي حدوث المعجزة ولكنه يشكك دوما في توقيت ظهورها واسبابه !
وثالث الدلالات هو فكرة انسياق الوجدان الجمعي لحالة الأيهام التي يمكن أن تمارس عليه نتيجة ضعف خلفيته الثقافية والحضارية والعلمية على حد سواء وحتى خلفيته الدينية فالمعلومات الدينية المتوفرة لدى مجموعة الأفراد في القرية والذين يمثلون عينة عشوائية تدل على ضعف المرجعية الدينية لديهم واكتفائهم لمظاهر سطحية وقشور دينية وذلك وجدان نمير يصور المواكب الدينية"المسيحية" ويلتقي مع افراد عاديين لكنهم يؤمنون بأسطورية الدين أكثر من تعاليمه وتفاصيله وأحكامه.
في مشهد الذروة وعندما يتم عرض(تجلي العذراء)الذي صوره نمير مستعينا بأهل قرية أمه, "تتجلي" فكرة الفيلم الأساسية ونتيجته التي وصل إليها المخرج, فنرى من خلال استعراض وجوه اهل القرية المشاركين في صناعة الفيلم مدى تأثرهم بمشهد(الظهور السينمائي)الذي شاركوا هم انفسهم في صناعته الكاميرا تستعرض وجوه الجميع وهم ينظرون بأنشداه حقيقي وتصديق لما يحدث وكأنهم يرون أحد(الظهورات الأعجازية)التي سمعوا عنها كثيرا, لقد صدقوا الظهور واقتنعوا به رغم أنهم شاركوا في صناعته بأنفسهم وضحكوا منه ولكن وقت أن عرض عليهم وتطابق مع افكارهم وتخيالاتهم عنه نسوا أنهم هم أنفسهم من صنعوه, وتأثروا به.
في المشهد الاخير نشاهد نمير يغادر القرية مع أمه بعد أن اثبت لنا وجهة نظره لكننا نرى اللقطة من وجهة نظر تمثال العذراء الذي وضع فوق سطح البيت الذي صور فيه من أجل المشهد, وتقديم هذا المشهد من وجهة نظر التمثال/العذراء يشير لأن المخرج لم يكن يريد نفي الأيقونة الدينية ولا الدخول في جدل علماني حول ظهورها من عدمه أن بقاء التمثال واتخاذ وجهة نظره(وكأنه شخص حي)معناه أن الايقونة باقية وحقيقية وأن الأيمان بها متاح للجميع فهذا لم يكن ما يعني المخرج ولكنه تحدث عن كيفية استغلال الرمز الديني في التأثير على الشعوب نتيجة طبيعة العاطفة الدينية لديهم.

العفوية التسجيلية
يعد الفيلم نموذج لما يمكن أن نطلق عليه"العفوية التسجيلية"سواء على مستوى التصاعد"الدرامي"والفكري للاحداث والتفاصيل التي تتراكم وتطرح تساؤلات او على المستوى البصري الذي اعتمد على الكاميرا المحمولة المتنقلة دون الأفراط في حركتها التي يمكن أن تنفي الطابع التأملي والذهني لتفاصيل الفيلم, ان فكرة الرحلة التي خاضها المخرج من فرنسا للقاهرة للصعيد تبدو متجلية في طبيعة استخدام الكاميرا المحمولة لأيهام المتلقي طوال الوقت أن المسألة عفوية فالقاءات وان بدا بعضها مرتبا إلا أن طبيعة تكوينها وتصويرها بدت عفو الخاطر ووليدة اللحظة مثل لقاء نمير بأهل قريته وهو يركب سيارة مكشوفة أو في مشهد ذهابه لمنزل جدته لأمه وكسر نمير للأيهام طوال الوقت هو جزء اساسي من الاطار الفكري للفيلم فنحن في النهاية امام حالة كسر ايهام عامة تخص عنصر انثربولوجي هام في المجتمع المصري وطبيعي أن يتحد الشكل والمضمون اذا ما كانت الفكرة جيدة والأسلوب اصيل وغير مفتعل.



جيم اوفر: السبكي ينتصر على السينما المصرية




سيناريو:  محمد القواشطي- مصطفى عمار
بطولة: يسرا- مي عز الدين
إخراج: احمد البدري
إنتاج : محمد السبكي
مدة الفيلم: 100 ق

في فيلمه"عمر وسلمى"الجزء الثالث خرج علينا"المنتج"محمد السبكي كعادته في المشهد الشهير الذي اصبح"آفيه"في معظم افلامه لينقل رسالة هامة إلى"اعداء النجاح"كما اسماهم بأنه سوف يظل يظهر في كل افلامه"بفلوسه".
في الحقيقة فإن ما يفعله السبكية بالسينما المصرية"بفلوسهم"ينطبق عليه إلى حد كبير عنوان الفيلم ومعناه بالعربية"المباراة انتهت"والفائز بالطبع هم السبكية والخاسر هي السينما المصرية لأنه على طول تاريخها الملئ بالأفلام التجارية وأفلام المقاولات لم تصل إلى هذا الحد من الانحدار والسفه والحضيض الفكري والفني كما وصلت إليه على يد السبكية.
التركيبة الفيلمية لمحمد السبكي لا تختلف كثيرا عن تركيبة أحمد السبكي باستثناء أنه يصر على تقديم ما يعرف بالكوميديا الحركية والتي تعتمد على الصفع والضرب والقفز والشقلبة والطيران في الهواء والسقوط, وهي من اصعب انواع الكوميديا لانها تحتاج إلى تنفيذ متقن من اجل الوصول إلى حالة ايهام كاملة بحقيقية ما يحدث,والسينما الأمريكية ابرع منفذة للكوميديا الحركية وهي اقدم انواع الكوميديات السينمائية لانها تعتمد على الأفية الجسدي المصور ورائدها شارلي شابلن وذلك قبل استخدام الصوت السينمائي عام 27 وظهور الافيه الكلامي المنطوق.
مشكلة الكوميديا الحركية في مصر أنها تنفذ ببدائية شديدة وركاكة منفرة فلا ترق لمستوى الأيهام الازم للأقناع وبالتالي تجلب الضحك, في افلامنا تتحول إلى استظراف وابتذال وسخرية من الجمهور ولا تليق سوى بعقول الأطفال دون العاشرة, كما انها تحتاج إلى خبرة تصوير ومونتاج كبيرة وذلك لأن الحركة يجب أن تكون محسوبة بالكادر والقطع يجب أن يكون دقيقا كي لا يكشف الخدعة او يعطل الأفيه وهو ايضا ما نفتقده كثيرا في سينما محدودة الامكانيات كسينمانا.
بوستر الفيلم الأصلي 
بقية التركيبة معروفة فكرة مقتبسة من فيلم"الحماة المتوحشة" /monsters in law لجينيفر لوبيز في الدورالذي قدمته"مي عز الدين"و"جين فوندا" التي حاولت يسرا تقليدها في دور الحماة المتسلطة التي ترفض زواج ابنها من فتاة احلامه لانها تعمل في مهنة عاملة نظافة, ومهنة عاملة النظافة هي الأخرى مقتبسة من فيلم "عاملة نظافة من مانهاتن"بطولة جينفير لوبيز ايضا وينقل الفيلم المصري مشهد استعداد عامله النظافة لمقابلة فارس احلامها, كما ينقل عدة مشاهد من افلام مصرية مثل مشهد ارسال محمد نور لجاهز الاسلكي إلى مي عز الدين كما فعل حلمي مع زينة في بليل حيران ومثل مشهد الحوار العاطفي الغير مباشر الذي يدور بين مي و نور وهو منقول من عمر وسلمى الجزء الاول من بطولة مي وإنتاج محمد السبكي الذي صار يقتبس بنفسه من نفسه.
اضف إلى التركيبة الطفل"اوشه"وهو المعادل الذكوري للمعجزة "جينا" في افلام أحمد السبكي وكما تقدم جينا دور الطفلة/المرأة يقدم اوشه دور الطفل/الرجل مع بعض التفاصيل الشعبية التي تجعل منه نموذج جيد لأفساد سلوكيات الاطفال, خاصة أنه يحب فتاة اكبر منه ويتحدث عن رغبته في الأرتباط بها وهي ايحاءات عاطفية لا تناسب ابدا هذه المرحلة العمرية حتى لو كانت في اطار هزلي.
مي عز الدين
ولا ننسى رغبة صناع التركيبة في تقديم مشاهد اقرب لفيلم"وحدي في المنزل"خاصة في المشهد الذي تذهب فيه يسرا لتطمئن على صحة خطيبة ابنها فيهجم عليها ابنا اختها لاعبا الكاراتية.
فشل السيناريو ضمن ما فشل في تأصيل دوافع الام لرفض الفتاة وكان عليه أن يكتفي بفكرة الفرق الطبقي رغم انها فكرة مستهلكة ولكن اصراره على تقليد الفيلم الاجنبي جعل الام تؤكد على انها تريد ان تعيش امومتها مع ابنها وهو مبدأ منحرف نفسيا لأن ابنها رجل مكتمل الرجولة ولو انه وضع الام في موضع التعلق الهوسي بالأبن نتيجة غياب الأب واعتبار الأبن هو الرجل في حياتها لكان اكثر موضوعيه ولكنها امور نفسية اصعب من ان يصل إليها كتاب السيناريو.
محمد نور اكبر دليل على تواضع قدرات المخرج في تحريك الممثل وتجويد ادائه لأنه ممثل ضعيف جدا وقدرات المخرج تظهر مع الممثل الضعيف وهولا يملك القدرة الصوتية على الأداء ولا الطاقة الملامحية للتعبير أو اللغة الجسدية لكنه مجرد شاب وسيم ببنية رياضية حتى عندما يغني تشعر به يؤدي ولا يُطرب, وهو اختيار سئ ولكنه جزء من تركيبة البطل/المطرب التي يحرص عليها السبكية وبينما يفضل أحمد المطرب الشعبي يفضل محمد السبكي مطرب"عاطفي"على شاكله تامر وجيله.
ولكن محمد السبكي لا يتنازل ايضا عن تقديم الاغنية"الشعبية"مستخدما تكنيك"دي جي وزة" في صياغة اغنية الفيلم الأساسية التي"تتبارز"فيها يسرا ومي بشكل منفر جدا وبكلمات سوقية واداء مهترئ وتفكك مونتاجي وتصويري كامل, حتى لا نتصور أن الفيلم يحمل اسم محسن احمد كمدير للتصوير ويكفي ان ننظر إلى مدى ظهور علامات كبر السن على وجه يسرا بسبب الأضاءة الغير فنية وزوايا التصوير التي اختارها المخرج والتي جعلتها تبدو اكبر من فاتن حمامة التي كان الحاج وحيد فريد يعرف كيف ينقص عشرات السنوات من عمرها بإضاءته المميزة.
والبدري نفسه في اضعف حالاته فمي عز الدين تعيد افهياتها الملامحية والجسدية التي اصبحت نمطية جدا وتكررت في شيكامارا وايظن وعمر وسلمى, اما يسرا فلو انها لم تقدم فيلما اخر تمحو به هذا الفيلم من ذاكرة جمهورها فسيكون اسواء نهاية لممثلة كبيرة, فابعاد الشخصية غائبة عنها تماما حيث انفعال مبالغ فيه وملامح متوحشة لا تناسب فكرة ادعاء البراءة من اجل تطفيش خطيبة الأبن وعيون حادة وحواجب مرفوعة بسبب وبدون سبب وحركة مرتبكة امام الكاميرا وافتعال واضح من اجل استجلاب الضحك رغم انها احد اهم الثنائيات الكوميدية في الثلاثين سنة الأخيرة ولديها خبرة كبيرة كان من الممكن ان ترتقي بهذه"اللعبة"الماسخة.
وبالطبع يصبح اهم مشاهد الفيلم هو ظهور محمد السبكي والذي ينتظره الجمهور بشغف ويتفنن كل مرة في اختيار موقعه وهنا يقدمه في اخر لقطة  كاسرا الايهام كعادته حيث يطلب من يسرا ان تتوقف عن مطاردة مي, وظهوره هو تأكيد لنفوذه الهائل الذي لا يعطله انتقاد او سخرية فهو المنتصر بفلوسه وتركيبته في معركة خسرت فيها السينما المصرية نفسها وتاريخها وامسخت حتى ملامحها التجارية التي تشكلت عبر اكثر من مئة عام.