السبت، 17 نوفمبر 2012

فيلم : الخروج للنهار

 كيف الخروج إلى النهار؟
 

قراة في فيلم "الخروج للنهار" للمخرجة هالة لطفي


لا يمكن اغفال ان فيلم المخرجة المصرية"هالة لطفي"واحد من أهم افلام مسابقة آفاق جديدة التي شهدتها فعاليات الدورة السادسة لمهرجان ابو ظبي السينمائي(11-20 اكتوبر) وذلك من اصل 13 فيلما هم حصيلة البرنامج المتميز هذا العام, كانت هالة قد حصلت على منحة سند من مهرجان ابو ظبي قبل عامين وعكفت على الأنتهاء من مشروعها الروائي الطويل الأول لتحصد به جائزة افضل مخرج من العالم العربي وتنويه من لجنة تحكيم الفيبريسي"الاتحاد الدولي للنقاد".
في المشهد قبل الاخير الذي يعتبر ذروة الفيلم الحقيقية, تنظر البطلة سعاد إلى احد المقامات الصغيرة المقامة وسط المقابر التي تطل على عين الصيرة, المقام يبدو غارقا في المياه الجوفيه على اتساع الحوش وفوق صفحة المياه تنعكس صورة السماء والمقام, وتبدو السماء والأرض كأنهما متطابقتين كصورة واحدة وانعاكسها على مرآة.
ان تطابق السماء والأرض في هذا المشهد يمثل ذروة المآساة التي تعيشها بطلة الفيلم حيث ندرك في تلك اللحظة ان تلك الأسرة الصغيرة المنسحقة داخل مدينة ميتة كالقاهرة ليس لها مكان على الأرض بمفهومها المعنوي الواسع وربما لن تجد لها مكانا في السماء ايضا فالعذاب واحد والموت لا يعني النهاية فها هي السماء والأرض تنعكسان في تطابق بصري كامل.
سعاد شابة في بداية الثلاثينات تعيش مع والدها المريض المقعد ووالدتها عاملة المستشفى التي تبدو كأنها مومياء او جثة ميتة تمشي على الأرض, تتحرك ببطء وتتحدث ببطء ووجهها المتغضن الكئيب لا يفصح سوى عن نظرات ميتة, انها تؤنب سعاد دوما بنظراتها كأنها تحملها مسؤلية المرض والكآبة التي تعيش فيهم الأسرة, في حين أن الفتاة الشابة العجفاء جافة الشعر والبدن تبذل قصارى جهدها من اجل رعاية الأب وتمريضه.
عبر مشاهد يتوازي فيها الزمن الفيلمي مع الزمن الواقعي نتابع نهار سعاد منذ ان تستيقظ إلى ان تخرج في المساء للقاء شاب يبدو انها على علاقة به, ونقول يبدو ليس لأنه لا يظهر ولكن لان العلاقة في حد ذاتها تبدو سرابا لا تصل إليه سعاد, ولا تمنحنا المخرجة تأكيدا على انه متحقق كقصة حب ام مجرد امل مستحيل في ظل وضع اسري جحيمي.
تعتمد المخرجة على سيناريو بلا حبكة تقريبا, الحبكة موجودة تحت جلد السرد, التفاصيل تمثل حبكات صغيرة تصب كلها في حالة نهائية لا تتخذ من دراما البداية والوسط والنهاية شكلا لها.
داخل المنزل نتابع عبر كاميرا خشنة وكادرات شديدة الجفاف على مستوى التكوينات او الضوء كيف تمرض سعاد ابيها, كيف تغير ملابسه وتطعمه وتفرغ فضلاته, نتورط تماما في نهارها الكئيب والذي تؤديه بميكانيكية كأن تاريخها ومستقبلها يتلخص في تلك التفاصيل.
الشقة قديمة واسعة لكنها تبدو ضيقة من أثر الكآبة المعششة والتي اجاد مدير التصوير محمود لطفي مراكمة الظلال والخفوت في اركانها, تبدو الأضاءة في الفيلم واقعية اكثر مما يحتمل الواقع ذاته, ورغم ذلك لا تخفى علينا تفاصيل الشقة, المطبخ المصري بشخصيته المميزة بداية من مساحته الضيقة واكوام المواعين وعلبة الأيس كريم التي توضع فيها سفنجة الغسيل.
مطبخ يختصر تاريخ الأسرة وواقعها كله في مشهد واحد تقوم فيه الام بغسل الأواني ومحاولة ترويق المكان نتيجة انشغال الأبنة الدائم بالأب او كنوع من تحمليها الذنب لانها سوف تخرج لتزور صديقة لها بينما الأم تريد ان تستريح وتترك الأب في رعاية الأبنة ليستمر في تعذيبها الصامت بمرضه.
ورغم خشونة التفاصيل والأضاءة واستخدام لقطات قريبة ومتوسطة للأب في مرضه وتكلس عظامه وتقرح جسده, إلا أن هالة تنجح في تفجير ما يعرف بجماليات القبح في الصورة, زخم الصورة وطبيعة اضائتها في اغلب مشاهد الشقة تجعلها رغم ذلك لوحات حزينة لواقع مرير ليس فقط على المستوى المادي ولكن معنويا ونفسيا.
شريط الصوت خال تماما من اي موسيقى تصويرية, تتعامل المخرجة دوجمائيا مع شريط الصوت وطبيعة الأضاء في الصورة, شريط الصوت متفرغ تماما للأصوات الطبيعية سواء من داخل الشقة او خارجها, الموسيقى تأتي فقط من كوبليهات الأغاني التي تستمع إليها الشخصيات, عبد الوهاب الذي يؤنس وحدة سعاد ويهون عليها ساعات الانتظار حتى لقاء الحبيب الحاضر الغائب, وام كلثوم في لحظة صفاء بين جثتين هما الأب والأم حين تحاول ان تمارس بعض المشاعر الرقيقة مع زوجها الراقد ينتظر المغادرة إلى لا مكان.
اصوات الشارع والسيارات والهواء انها المدينة حاضرة اصواتها او كما يقول"روبير بيرسون" ان صفير قاطرة يستدعى إلى الذهن محطات قطار كاملة, تتخذ المدينة ابعادها الشكلية والملامحية عبر اصواتها في الفيلم وحتى في النهاية بعد ان يظلم كل شئ تنزل التيترات على صمت كامل بلا الحان ولا جمل معزوفة.
تذهب سعاد للقاء حبيبها فلا تتمكن من ذلك, يبدو انه يتهرب منها فتقرر زيارة صديقة لها, لا نرى الزيارة, ولا ندري ان كانت تمت ام لا, الموتى لا يتزاورون, وسعاد تحى ميتة شكلا وموضوعا, لا توجد حقائق مطلقة في السيناريو ولا احكام نهائية كالمدينة التي تعيش فيها الشخصيات, من داخل الشقة يبدة كل شئ في الخارج غائم"فلو" وعندما تتضح الصورة قليلا نراه عشوائيا قبيحا مكأنه اكوام من بيوت متهدمة فوق بعضها وكأن حال الأسرة هو حال المدينة.
كل شئ غائم وغير اكيد, الفتاة التي تقابلها سعاد في الميكروباص وتفرد لها المخرجة زمنا لا بأس به لتحكي لسعاد حكاياتها مع العفريت الذي يتلبسها ثم تطلب منها نقودا من اجل اكمال مشوارها لا ندري هل هي نصابة ام مصابة بمس من الجنون؟ وسائق الميكروباص الليلي الذي يبدو بلطجي الملامح والتصرفات لا ندري هل كان ينوي خطف سعاد بعد ان بقيت بمفردها في العربة ام انه كان بالفعل يدخل من شوارع جانبية للهروب من لجنة مرور؟
الحقيقية غائبة واليقين هارب, تعرف سعاد من امها ان اباها في المستشفى وتحاول قضاء الليلة هناك فلا تتمكن, تحاول العودة إلى البيت فيتركها السائق الغريب الأطوار في الظلام على جانب الطريق, تجلس إلى عين الصيرة وتبدو متكورة في بحثها المعذب عن شاطئ أمن لنفسها وافكارها وحياتها التي تمضي بلا معنى او هدف.
في الصباح تنظر إلى المقابر والمقام الغارق في المياه الجوفية ينتابها خاطر لا تفصح عنه سوى لأمها عندما تعود للبيت( هو احنا حندفن بابا فين؟)
ينتهي الفيلم على هذا السؤال الوجودي المطلق: اين ستكون النهاية؟ هل لنا مكان في السماء بعد ان ضاقت بنا الأرض؟ ان اسرة سعاد لا تملك مدفنا وبمنطق المصريين القدماء من ليس له مدفنا ليس له مكان في العالم الأخر.
تستخدم هالة لغة بصرية مكثفة جدا لدرجة تستعيض بها عن  الحوار او الحكي التقليدي, الشكل هنا يتطابق مع الحبكة والراوي في نفس الوقت, قروح ظهر الأب تحكي تاريخ مرضه الطويل, ذهاب سعاد إلى كوافير حريمي بائس يعكس مستواها المادي والانثوي الخامل, ملايات الفراش البيضاء التي تحضرها الام من المستشفى تعكس تردي وضع الأسرة الأقتصادي, الرجل الوحيد الذي يظهر في حياة سعاد هو ابن خالتها الممصوص القادم في زيارة سريعة بأفرول الجيش, بينما الرجل الأخر مجرد رنة موبيل تجيب عليها سعاد بيأس وقهر.
ان السؤال الذي يطرحه هذا القصيد السينمائي الرقيق اذا ما كان يطرح سؤالا فسيكون: كيف الخروج إلى النهار؟ فالزمن الفيلمي هو يوم واحد تقريبا لكنه يبدو اختصارا لحقبة حياتية كاملة في تاريخ هذه الأسرة اما النهار فرغم ان الشبابيك مفتوحة والضوء يدخل لكن حجم الكآبة والتعب في النفوس يجعل من هذا الضوء مجرد حلية شكلية فليس دخول الضوء معناه اننا نرى او نعيش الحياة.