السبت، 13 أبريل 2013

عن يهود مصر- المقال الكامل



ليس فيلما عن مصر زمان..بل عن الأن

سيناريو وإخراج: امير رمسيس
إنتاج: هيثم الخميسي- أمير رمسيس
مدة الفيلم: 95 ق
النوع: تسجيلي

تقول المونتيرة روزاليندا ديلمر مونتيرة الفيلم الشهير"الارض الأسبانية"الذي كتبه هيمنجواي"أن السينما التسجيلية لا تستهدف كشف الحقائق وإنما دعوة المتلقي إلى المشاركة" أي ان صانع الفيلم التسجيلي لا يقف دوره عند حدود تقديم بعض المعلومات والامور المجهولة بالنسبة للمتلقي ولكنه كلما استطاع أن يجعله متورط ذهنيا ونفسيا في البحث عما وراء ما شاهده على الشاشة كلما كان فيلمه اكثر قوة وعمقا وتأثيرا.
في فيلمه التسجيلي"عن يهود مصر" يحاول امير رمسيس أن يتخذ هذا الموقف"التسجيلي" من احد اكثر العناصر التاريخية حساسية في تاريخ مصر الحديث وهي فكرة"التعددية وتقبل الأخر" وذلك عبر موتيفة سياسية وتاريخية شديدة الألتباس والخطورة وهي"اليهود المصريين".
اسم الفيلم"عن يهود مصر"وليس(يهود مصر)كما هو شائع لأن عن هنا تفيد تجزئة الرؤية أو عرض وجهة نظر فهو لا يتحدث عن"كل"يهود مصر كما يدل العنوان المجرد ولكن عن"بعض"ما يخص تاريخ اليهود في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين, وذلك للخروج من هذا المثال السينمائي بما يمكن أعتباره رسالة أو اسقاط واضح على دعاوي رفض الأخر-المختلف في الدين-التي اصبحت جزء اساسي من الخطاب اليميني والسلفي في المجتمع المصري ما بعد ثورة يناير وربما ما قبلها ايضا.
نحن لسنا امام مجرد مادة تسجيلية تحكي جانبا من المسكوت عنه في التاريخ السياسي أو حتى الاجتماعي المصري ونعني به وجود اليهود كجزء من نسيج المجتمع ما قبل حركة الجيش 1952 ولكننا امام اعادة بناء مشهد تاريخي لا يزال حيا في الذاكرة حول مجتمع يمارس التعددية الدينية والسياسية والاجتماعية بدون امراض عنصرية أو فهم خاطئ لمفاهيم الليبرالية والعلمانية وبقدر كبير من الشفافية والمصالح الأيجابية والتقبل النفسي والانساني الذي كان يجعله بالفعل مجتمع متحضر وراق, وهو نفس ما يجعل ذات المجتمع عقب نصف قرن او يزيد بغياب تلك العناصر الهامة مجتمع متخلف ومتطرف وعنصري يتخذ من النظرة الضيقة للدين – والسياسة- تاريخا بديلا يبدأ بالامس فقط وكأن ما كان لم يكن او كأنه عصر من الجاهلية وما قبل الفتح"الديني أو السياسي".
يقسم امير فيلمه إلى اربعه اقسام القسم الأول هو عرض سريع موجز لطبيعة التواجد اليهودي في مصر خلال القرنين الاخيرين وحتى قيام حركة الجيش وبداية الصراع العربي الأسرائيلي وهو ما يأتي في شكل لقاءات مع عدد من المؤرخين والمهتمين, ثم ينتقل إلى شهادات حية من اليهود المصريين سواء الذين هاجروا بعد حرب السويس او في بداية الستينيات او الذين بقوا واصروا على"مصريتهم", ويتعامل امير مع هؤلاء بصريا خلال الفيلم بأستخدام اسلوب البورترية حتى انه مونتاجيا يقوم بتثبت الكادر على الشخصية"اليهودية" التي تتحدث عن نفسها وتاريخها وعلاقتها بمصر وكأنه يلتقط لها صورة فوتغرافية وقد افاته هذه التقنية في صياغة هارموني بصري مع كم الصور الفوتغرافية التي تمثل البدن البصري الحقيقي للفيلم أو المعادل التصويري لما يقال من شهادات وحكايات ومعلومات عن موضوع الفيلم.
ثم يعقب هذا الجزء بالحديث عن التاريخ خاصة فيما يتعلق ببداية ازمة الصراع العربي الأسرائيلي وجذوره وتأثيره على وضع اليهود في مصر قبل وبعد حركة الجيش ويعرج على اضافة بورتريهات تاريخية عن أهم الشخصيات اليهودية التي كان لها اثر هام في تاريخ الحركة"الوطنية" المصرية.
ولا ننسى الجزء الخاص بسفر الخروج أو كيف خرج اليهود من مصر, فحسب شهادات"الخارجين"انفسهم او ابنائهم فإن التحول السياسي الذي شهدته مصر بعد حركة الجيش والذي اتسم نتيجة الظروف التاريخية لظهورالكيان الصهيوني بكثير من العنصرية والشوفونية وقصر النظر والتشدد هو السبب الرئيسي في"موت" جزء حضاري حي في النسيج المصري ولا نقصد به اليهود ولكن فكرة قبول الآخر-المختلف دينيا وسياسيا-وهو في رأيي الجزء الذي يمثل الذروة الحقيقية للطرح الفكري والسياسي والأنساني للفيلم من الناحية الدرامية البحتة, وهو ذاته الجزء الذي يعيدنا إلى الفرضية التي طرحناها في البداية, أن المخرج يذهب إلى مثال شديد التطرف-والقوة- لمواجهة افكار ورؤى ظلامية هي الأخرى متطرفة وحانقة على كل ما هو متنور وحضاري, ولكنه تطرف محمود من قبل هذا السينمائي الشاب, انه ليس فيلما عن التاريخ بل عن الواقع, المحتقن فقط هو من سيظن أن الحديث عن رؤس الاموال اليهودية المصرية ومشاركة اليهود المصريين في الحركة الوطنية ورفضهم للصهيونية وعن حنين من خروجوا لبلد المنشأ وعن امنيات العودة المستحيلة أو رفض المغادرة إلا بالموت-المحتقن من سيظن-ان الفيلم يحتوى على دعاوي"تطبيع"أو دعوة للسلام العالمي أو مغازلة للغرب"اليهوي"-نسبة إلى يهوه آله اليهود- ولكن المادة الفيلمية في تداعيها واسلوبها واختيارتها تعكس قلق على مجتمع تفشت فيه العنصرية والتطرف والعبوس في وجه الآخر من غير اهل الملة.
أن المخرج يقارن بين ما حدث عقب حركة الجيش 52 وبين ما يحدث عقب ثورة 25 يناير ليس على المستوى السياسي ولكن على المستوى الحضاري والاجتماعي فالسياسة عام 52 هي الدين عام 2011 واليهود ما بعد يوليو قد يكونوا المسيحيين او الليبراليين او العلمانين ما بعد يناير ولهذا كان من الذكاء والجرأة أن يستعرض المخرج جانبا من تاريخ الاخوان مع اليهود المصريين قبل 52 وبعد قيام الكيان الصهيوني مستشهدا بالوقائع التاريخية المتمثلة في جرائد تلك الفترة وصور من واقع حرق حارة اليهود وتدمير المتاجر الكبرى لليهود المصريين الذي لم يكن لهم اي علاقة بما حدث في فلسطين واختيار الاخوان ليس تشهيرا بهم ولكنه ربط فني وتاريخي بين حقبتين تجمعهم صفات مشتركة وتلميح درامي إلى الواقع الحالي بتداعياته سواء على الساحة السياسية او في الشارع المصري نفسه.
نتصور ان بعد المتابعة المكثف للجمهور المصري للقنوات الفضائية خلال العامين الأخيرين سوف تجعل من اسلوب الفيلم وجبة سهلة التناول في دور العرض وهي اكبر انجاز يحققه صناعه, صحيح أن بعض النقاد يصنف مثل هذا الأسلوب على انه سينما الكراسي أي ان جزء كبير من شهاداته واراء ضيوفه تأتي عبر جلوسهم امام الكاميرا على الكراسي للحديث والبوح ولكن لا ننسى أنه إنتاج مستقل لا تقف ورائه أمكانيات مالية ضخمة تتيح اسلوب بصري وسردي مختلف يخرج به من نطاق البرامجية الضيق إلى افق السينمائية الواسع.

     


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق